سورة البقرة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{الم (1)}
تفسير آلم حروف الهجاء: {الم} فيه مسألتان: المسألة الأولى:
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة، فكانت لا محالة أسماء.
فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» الحديث، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم.
قلنا: سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.
معاني تسمية حروفها:
فروع: الأول: أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً.
حكمها ما لم تلها العوامل:
الثاني: حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات.
كونها معربة:
الثالث: هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين.
معاني آلم:
المسألة الثانية: للناس في قوله تعالى: {الم} وما يجري مجراه من الفواتح قولان:
أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر للعلماء سر، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين.
والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر.
وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه.
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.
حجج المتكلمين بالآيات:
أما الآيات فأربعة عشر.
أحدها: قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه.
وثانيها: قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق؟.
وثالثها: قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192 195] فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلم منذراً به، وأيضاً قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً.
ورابعها: قوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه.
وخامسها: قوله: {تِبْيَانًا لّكُلّ شَيء} [النحل: 89] وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيء} [الأنعام: 38].
وسادسها: قوله: {هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة: 185]، {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وغير المعلوم لا يكون هدى.
وسابعها: قوله: {حِكْمَةٌ بالغة} [القمر: 5] وقوله: {وَشِفَاء لِمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم.
وثامنها: قوله: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} [المائدة: 15].
وتاسعها: قوله: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم؟.
وعاشرها: قوله تعالى: {هذا بلاغ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} فكيف يكون بلاغاً، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [إبراهيم: 52] وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر: قوله: {قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] فكيف يكون برهان ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم؟ الثاني عشر: قوله: {فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 123، 124] فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم؟ الثالث عشر: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم؟ الرابع عشر: قوله تعالى: {آمن الرسول} [البقرة: 285] إلى قوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً.
الاحتجاج بالأخبار:
وأما الأخبار: فقوله عليه السلام: «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي» فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: «عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
الاحتجاج بالمعقول:
أما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا.
وثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم.
وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به، فهذا مجموع كلام المتكلمين، واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.
احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات:
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم، لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} والوقف هاهنا واجب لوجوه:
أحدها: أن قوله تعالى: {والراسخون فِي العلم} [آل عمران: 7] لو كان معطوفاً على قوله: {إِلاَّ الله} لبقي {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال، لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً {كل من عند ربنا} وهذا كفر.
وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح.
وثالثها: أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً، لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِه} [آل عمران: 7].
احتجاجهم بالخبر:
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا، وروي أنه عليه السلام قال: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله» ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً، لقوله عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
احتجاجهم بالمعقول:
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة.
ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب.
هل المراد من الفواتح معلوم:
القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً.
الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس: صاد، وللنقد عين، وللسحاب غين، وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نوناً.
الثاني: أنها أسماء لله تعالى، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: يا كهايعص، يا حام عاسق الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تعالى، قال سعيد بن جبير: قوله (آلر، حام، ن) مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي.
الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس: أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما في (آلم): الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في: {كهيعص} إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك.
السادس: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات.
قال ابن عباس في {ألم} أنا الله أعلم، وفي {المص} أنا الله أفصل، وفي {الر} أنا الله أرى، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه.
السابع: كل واحد منها يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده. قاله محمد بن كعب القرظي.
وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه.
الثامن: بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
التاسع: كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً، واللام أي لامه الجاحدون، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق.
وقال بعض الصوفية: الألف معناه أنا، واللام معناه لي، والميم معناه مني.
العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر.
الحادي عشر: قال عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات.
الثاني عشر: قول ابن روق وقطرب: إن الكفار لما قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وتواصلوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن؛ فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم.
الثالث عشر: قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال آخرين، قال ابن عباس رضي الله عنه: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة {ألم ذلك الكتاب} [البقرة: 1، 2] ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن ألم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم كذلك نزلت»، فقال حيى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيى فهل غير هذا؟ فقال: نعم {المص}، فقال حيي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة، فهل غير هذا، قال: نعم {الر}، فقال حيى هذا أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم {المر}، قال حيي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 7] الرابع عشر: هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه، فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد.
الخامس عشر: روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه.
السادس عشر: قال الأخفش: إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد، هو الكل، كما تقول قرأت الحمد، وتريد السورة بالكلية، فكأنه تعالى قال: أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
السابع عشر: أن التكلم بهذه الحروف، وإن كان معتاداً لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه.
الثامن عشر: قال أبو بكر التبريزي: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف، فيجب أن لا يكون قديماً.
التاسع عشر: قال القاضي الماوردي: المراد من ألم أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون: الألف إشارة إلى ما لابد منه من الاستقامة في أول الأمر، وهو رعاية الشريعة، قال تعالى: {إِن الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، وهو رعاية الطريقة، قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية، وهو مقام الحقيقة، قال تعالى: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] الحادي والعشرون: الألف من أقصى الحلق، وهو أول مخارج الحروف، واللام من طرف اللسان، وهو وسط المخارج، والميم من الشفة، وهو آخر المخارج، فهذه إشارة إلى أنه لابد وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى، على ما قال: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} [الذاريات: 50].
كون فواتح السور أسماءها:
والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة، أو تكون مفهومة، والأول باطل، أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج، وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم.
وأما القسم الثاني فنقول: إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب، أو أسماء المعاني، والثاني باطل؛ لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون، فيمتنع حملها عليها؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب؛ ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بالإجماع؛ لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، وليس فيهم من حملها على الكل، أو لا يحمل على شيء منها، وهو الباقي، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.
جعلها أسماء ألقاب أو معاني:
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الألفاظ غير معلومة، قوله: لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج قلنا: ولم لا يجوز ذلك؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة، والسجيل والاستبرق فارسيان، قوله: وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان قلنا: لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا هاهنا، سلمنا أنها مفهومة، لكن قولك: إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا، فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما، فلم لا يجوز أن يقال: إنها من أسماء المعاني؟ قوله: إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء، ولكن لم لا يجوز أن يقال: إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معيناً؟ وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله.
وثانيها: أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس.
وثالثها: أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء.
ورابعها: أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى.
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه:
أحدها: أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في {الم} و{حم} فالاشتباه حاصل فيها، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه.
فإن قيل: يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد؛ فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية.
قلنا: قولنا {ألم} لا يفيد معنى ألبتة، فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً، بخلاف التسمية بمحمد، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين، وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول، ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين، بخلاف قولنا: {ألم} فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً.
وثانيها: لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر؛ لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور.
وثالثها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب، وأنه غير جائز.
ورابعها: أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران.
وخامسها: هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة، فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً، وهو محال، فإن قيل: مجموع قولنا: صاد اسم للحرف الأول منه، فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب؟ قلنا: الفرق ظاهر؛ لأن المركب يتأخر عن المفرد، والاسم يتأخر عن المسمى، فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين، وذلك غير مستحيل، أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً، وذلك محال.
وسادسها: لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، ومعلوم أنه غير حاصل.
الجواب: قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن كل ذلك عربي، لكنه موافق لسائر اللغات، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين: الثاني: أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها، فتكلموا بتلك الأسماء، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً.
قوله: وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً قلنا: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل، أو في الكتاب، أو في السنة بيانه، وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه.
وقوله: لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب؟ قلنا: لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذا الغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض، وهو بالإجماع باطل.
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا: ألم غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني، فلا يجوز استعمالها فيه، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، ولأنها متعارضة، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض؛ ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه.
أما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى حكمة خفية.
وعن الثاني: أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.
وعن الثالث: أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة حضرموت فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز؛ فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.
وعن الرابع: أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا هاهنا.
وعن الخامس: أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسماً لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له.
وعن السادس: أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق: أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب: من أن المشركين قال بعضهم لبعض: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26] فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران: أحدهما: أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني: إن العلماء قالوا: أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال: لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً، لكنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة فإن ذلك يكون جائزاً؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله: أنه يكون هذياناً قلنا: إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم.
القول بأنها أسماء السور:
فروع على القول بأنها أسماء السور: الأول: هذه الأسماء على ضربين: أحدهما: يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً مفرداً كصاد، وقاف، ونون أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو (كدر ابجرد)، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث.
والثاني: ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهايعص، والامر، إذا عرفت هذا فنقول: أما المفردة ففيها قراءتان: إحداهما: قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو: اذكر، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز سيبويه مثله في حموطاس وياس لو قرئ به، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ ياس بفتح النون؛ وأن يكون الفتح جراً، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية، فقد جاء عنهم: الله لأفعلن غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف، وثانيتهما: قراءة بعضهم صاد بالكسر. وسببه التحريك لالتقاء الساكنين.
أما القسم الثاني وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه فهو يجب أن يكون محكياً، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك: دعني من تمرتان.
الثاني: أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم: أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة.
الثالث: هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت ص ق ن على حرف، وطاه وطاس وياس وحام على حرفين، وألم والر وطاسم على ثلاثة أحرف، والماص والامر على أربعة أحرف، وكهاعيص وحمعاسق على خمسة أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا هاهنا.
الرابع: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا؟ فنقول: إن جعلناها أسماء للسور فنعم، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدودة.
الإشارة في ذلك الكتاب:


{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
قوله تعالى: {ذلك الكتاب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه هاهنا حاضر، وذلك اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والجواب عنه من وجهين:
الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه:
أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: {ذلك} إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ} [الأعراف: 204] وقال حاكياً عن الجن {إنا سمعنا قرآناً عجباً} [الجن: 1] وقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} [الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت.
وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث.
وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: {ذلك الكتاب} أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل.
ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمّ الكتاب لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: {ذلك الكتاب} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى ألم بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد.
وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً احتفظ بذلك.
وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.
ذلك يشار بها للقريب والبعيد:
المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة ذلك لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفاً إشارة، وأصلهما ذا؛ لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] ومعنى ها تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على ذا للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: ذلك فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض، وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله هاهنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى: {واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق} [ص: 45] إلى قوله- {وَكُلٌّ مّنَ الأخيار} [ص: 48] ثم قال: {هذا ذِكْرُ} [الأنبياء: 24] وقال: {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} [ص: 52- 53] وقال: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وقال: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى} [النازعات: 25- 26] وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} [الأنبياء: 105] ثم قال: {إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} [الأنبياء: 106] وقال: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كذلك يحيى الله الموتى} [البقرة: 73] أي هكذا يحيى الله الموتى، وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة، الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر وهو السورة وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم)، لا الذي هو مؤنث وهو السورة.
مدلول لفظ كتاب:
المسألة الثالثة: اعلم أن أسماء القرآن كثيرة: أحدها: الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ} [ص: 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه:
أحدها: الفرض {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء: 103].
وثانيها: الحجة والبرهان {فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين} [الصافات: 157] أي برهانكم.
وثالثها: الأجل {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أي أجل.
ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.
اشتقاق لفظ قرآن:
وثانيها: القرآن {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان} [الإسراء: 88] {إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3] {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185]. {إِنَّ هذا القرءان يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وللمفسرين فيه قولان:
أحدهما: قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد، كالخسران والخسارة واحد، والدليل عليه قوله: {فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءانَهُ} [القيامة: 18] أي تلاوته، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته: الثاني: وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقال سفيان بن عيينة: سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات، والكلمات جمعت فصارت آيات، والآيات جمعت فصارت سوراً، والسور جمعت فصارت قرآناً، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين. فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية.
معنى الفرقان:
وثالثها: الفرقان {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]. {وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} [البقرة: 185] واختلفوا في تفسيره، فقيل: سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ ونزلناه تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] ونزلت سائر الكتب جملة واحدة، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك} [الفرقان: 32] وقيل: سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول، وقيل: الفرقان هو النجاة، وهو قول عكرمة والسدي، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة، وعليه حمل المفسرون قوله: {وَإِذْ آتينا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53].
معنى تسميته بالذكر:
ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه} [الأنبياء: 50] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره.
والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، وأما التذكرة فقوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] وأما الذكرى فقوله تعالى: {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55].
تسميته تنزيلاً وحديثاً:
وخامسها: التنزيل {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 192- 193].
وسادسها: الحديث {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا} [الزمر: 23] سماه حديثاً؛ لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن الله خاطب به المكلفين.
وسابعها: الموعظة {يا أيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} [يونس: 57] وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى، والآخذ جبريل، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تقع به الموعظة.
تسميته بالحكم والحكمة:
وثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، أما الحكم فقوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا} [الرعد: 37] وأما الحكمة فقوله: {حِكْمَةٌ بالغة} [القمر: 5] {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة} [الأحزاب: 34] وأما الحكيم فقوله: {يس والقرءان الحكيم} [ياس: 1- 2] وأما المحكم فقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [هود: 1].
معنى الحكمة:
واختلفوا في معنى الحكمة، فقال الخليل: هو مأخوذ من الإحكام والإلزام، وقال المؤرخ: هو مأخوذ من حكمة اللجام؛ لأنها تضبط الدابة، والحكمة تمنع من السفه.
وتاسعها: الشفاء {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وقوله: {وَشِفَاء لِمَا فِي الصدور} وفيه وجهان:
أحدهما: أنه شفاء من الأمراض.
والثاني: أنه شفاء من مرض الكفر، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض، فقال: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [البقرة: 10] وبالقرآن يزول كل شك عن القلب، فصح وصفه بأنه شفاء.
كونه هدي وهادياً:
وعاشرها: الهدى، والهادي: أما الهدى فلقوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. {هُدًى لّلنَّاسِ} [آل عمران: 4، الأنعام: 91]. {وَشِفَاء لِمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وأما الهادي {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقالت الجن: {إِنا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَاً يَهْدِى إِلَى الرشد} [الجن: 1، 2].
الحادي عشر: الصراط المستقيم: قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن، وقال: {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه}.
والثاني عشر: الحبل: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} [آل عمران: 103] في التفسير: إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال: إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به لأنه يعصم الناس من المعاصي.
الثالث عشر: الرحمة {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 88] وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.
تسميته بالروح:
الرابع عشر: الروح {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] وعيسى بالروح {ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ} [النساء: 171].
الخامس عشر: القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] سمي به لأنه يجب اتباعه {وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ} [القصص: 11] أي اتبعي أثره؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62].
السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين: أما البيان فقوله: {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} [آل عمران: 138] والتبيان فهو قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَيء} [النحل: 89] وأما المبين فقوله: {تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1].
السابع عشر: البصائر {هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} [الأعراف: 203] أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.
الثامن عشر: الفصل {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل} [الطارق: 13- 14] واختلفوا فيه، فقيل معناه القضاء، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار.
تسميته بالنجوم:
التاسع عشر: النجوم {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] لأنه نزل نجماً نجماً.
العشرون: المثاني: {مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار.
تسميه القرآن نعمة وبرهانا:
الحادي والعشرون: النعمة: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} [الضحى: 11] قال ابن عباس يعني به القرآن.
الثاني والعشرون: البرهان {قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ} [النساء: 174] وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله.
الثالث والعشرون: البشير والنذير، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل: {مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء: 165- الأنعام: 48] وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} [الفتح: 8] وقال في صفة القرآن في حام السجدة {بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت: 4] يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى، ومن هاهنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن.
تسميته قيماً:
الرابع والعشرون: القيم {قِيمَاً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] والدين أيضاً قيم {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36] والله سبحانه هو القيوم {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} [البقرة: 255- آل عمران: 2] وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة.
الخامس والعشرون: المهيمن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وهو مأخوذ من الأمين، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} [البقرة: 143].
السادس والعشرون: الهادي {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقال: {يَهْدِى إِلَى الرشد} [الجن: 2] والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر النور الهادي.
تسميته نوراً:
السابع والعشرون: النور {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] وفي القرآن {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] يعني القرآن وسمي الرسول نورا {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِين} [المائدة: 15] يعني محمد وسمي دينه نوراً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} [الصف: 8] وسمي بيانه نوراً {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} [الزمر: 22] وسمي التوراة نوراً {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] وسمي الإنجيل نوراً {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46] وسمي الإيمان نوراً {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِم} [الحديد: 12].
الثامن والعشرون: الحق: ورد في الأسماء الباعث الشهيد الحق والقرآن حق {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} [الحاقة: 51] فسماه الله حقاً؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] أي ذاهب زائل.
التاسع والعشرون: العزيز {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 9] وفي صفة القرآن {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} [فصلت: 41] والنبي عزيز {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة: 128] والأمة عزيزة.
{وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة، وللعزيز معنيان: أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته.
والثاني: أن لا يوجد مثله.
تسمية القرآن بالكريم:
الثلاثون: الكريم {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كريم فِي كتاب مَّكْنُون} [الواقعة: 77] واعلم أنه تعالى سمى سبعة أشياء بالكريم {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] إذ لا جواد إجود منه، والقرآن بالكريم، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، وسمى موسى كريماً {وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] وسمي ثواب الأعمال كريماً {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [ياس: 11] وسمي عرشه كريماً {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [النمل: 26] لأنه منزل الرحمة، وسمى جبريل كريماً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ومعناه أنه عزيز، وسمى كتاب سليمان كريماً {إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً.
ومن أسمائه العظيم:
الحادي والثلاثون: العظيم: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني والقرءان العظيم} [الحجر: 87] اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال: {وَهُوَ العلى العظيم} [البقرة: 255] وعرشه عظيما {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] وكتابه عظيماً {والقرآن العظيم} [الحجر: 87] ويوم القيامة عظيماً {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} [المطففين: 5- 6] والزلزلة عظيم {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] والعلم عظيماً {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] وكيد النساء عظيماً {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وسحر سحرة فرعون عظيماً {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وسمي نفس الثواب عظيما {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] وسمى عقاب المنافقين عظيماً {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7].
ومنها المبارك:
الثاني والثلاثون: المبارك: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَك} [الأنبياء: 50] وسمى الله تعالى به أشياء، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً {فِى البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30] وسمى شجرة الزيتون مباركة {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ} [التوبة: 35] لكثرة منافعها، وسمي عيسى مباركا {وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً} [مريم: 31] وسمى المطر مباركاً {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} [ق: 9] لما فيه من المنافع، وسمي ليلة القدر مباركة {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة.
اتصال ألم بقوله ذلك الكتاب:
المسألة الرابعة: في بيان اتصال قوله: {ألم} بقوله: {ذلك الكتاب} قال صاحب الكشاف: إن جعلت {ألم} اسماً للسورة ففي التأليف وجوه:
الأول: أن يكون {ألم} مبتدأ و{ذلك} مبتدأ ثانياً و{الكتاب} خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون {ألم} خبر مبتدأ محذوف أي هذه {ألم} وَيَكُونَ {ذلك الكتاب} خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك، وأن تكون هذه {الم} جملة و{ذلك الكتاب} جملة أخرى وإن جعلت {الم} بمنزلة الصوت كان {ذلك} مبتدأ وخبره {الكتاب} أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [السجدة: 2] وتأليف هذا ظاهر.
تفسير قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}:
قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الريب قريب من الشك،. وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: ريب الدهر وريب الزمان أي حوادثه قال الله تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر:
قضينا من تهامة كل ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
قلنا: هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً.
ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وها هنا سؤالان:
السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه.
الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.
السؤال الثاني: لم قال هاهنا: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وفي موضع آخر {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47]؟
الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا هاهنا، كما قصد في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث: من أين يدل قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} على نفي الريب بالكلية؟
الجواب: قرأ أبو الشعثاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} بالرفع.
واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: {لاَ رَيْبَ} نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: لا إله إلا الله نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وأما قولنا: لا ريب فيه بالرفع فهو نقيض لقولنا: ريب فيه وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.
الوقف على فيه:
المسألة الثانية: الوقف على {فِيهِ} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لاَ رَيْبَ} ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} {فِيهِ هُدًى}.
واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.
حقيقة الهدى:
قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} فيه مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة الهدى: الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب (الكشاف): الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة: أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] وقال: {لعلى هُدًى أوفِى ضلال مُّبِينٍ} [سبأ: 24].
وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد.
وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى.
والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً، وغير منتفع به لا يسمى مهدياً؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.
وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
معنى المتقي:
المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى ذكر المتقي هاهنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات.
واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه.
واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] ومثله في أول الحج، وفي الشعراء {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [هود: 106] يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه {اعبدوا الله واتقوه} [نوح: 3] يعني اخشوه، وكذا قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة: 197] {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعاً: والإخلاص خامساً: أما الإيمان فقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] أي التوحيد {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} [الحجرات: 3] وفي الشعراء {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] أي ألا يؤمنون وأما التوبة فقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا} [الأعراف: 96] أي تابوا، وأما الطاعة فقوله في النحل: {أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون} [النحل: 2] وفيه أيضاً: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} [النحل: 52] وفي المؤمنين {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} [المؤمنون: 52] وأما ترك المعصية فقوله: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها واتقوا الله} [البقرة: 189] أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: {وإياى فاتقون} [البقرة: 41] واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] وعن ابن عباس قال عليه السلام: «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده».
وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة.
قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله.
وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً. ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لّلنَّاسِ} [البقرة: 185] ثم قال هاهنا في القرآن: إنه هدى للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.
المسألة الثالثة: في السؤالات: السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين.
الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [ياس: 11] وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.
وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين.
السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج. لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟.
الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع صار كله هدى.
السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟.
الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.
السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال، وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.
المسألة الرابعة: قال صاحب الكشاف: محل {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع {لاَ رَيْبَ فِيهِ} {لذلك} أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً، وأن يقال: إن قوله: {الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و{ذلك الكتاب} جملة ثانية، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة و{هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة، والرابعة.
بيانه: أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكراً.


{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
اعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب (الكشاف): {الذين يُؤْمِنُونَ} إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب {أولئك على هُدًى} فإذا كان موصولاً كان الوقف على المتقين حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً.
المسألة الثانية: قال بعضهم: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيآت، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ} وإما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة؛ لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة؛ ولهذا سمى الرسول عليه السلام: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام» وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين؛ وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، واللروح يجب تطهيره أولاً عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى أقر وأعترف وأما ما حكى أبو زيد: ما آمنت أن أجد صحابة أي ماوثقت، فحقيقته صرت ذا أمن، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في {يُؤْمِنُونَ بالغيب} أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق.
وأقول: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع.
الفرقة الأولى: الذين قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنّة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق، ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله، ويكون المراد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام، بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله، فالإيمان المُعدَّى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة، أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي الذي هو التصديق إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه:
أحدها: أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد.
وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.
وثالثها: أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها.
وأما أهل الحديث فذكروا وجهين:
الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة.
وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب.
الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
الفرقة الثانية: الذين قالوا: الإيمان بالقلب واللسان معاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين:
أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو كان علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال.
وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف.
وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته وبكونه مرئياً أو غيره لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان.
القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غِياث المريسي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس.
القول الثالث: قول طائفة من الصوفية: الإيمان إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب.
الفرقة الثالثة: الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان.
أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان.
وحكى الكعبي عنه: أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.
الفرقة الرابعة: الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان:
الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان.
الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر هاهنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول: أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، بقي هاهنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة.
القيد الأول: أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً.
الثاني: أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع.
الثالث: أجمعنا على أن الإيمان المعدى بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدى كذلك.
الرابع: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال: {مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 41] وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] الخامس: أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً.
السادس: أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي، قال: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِئ إلى أَمْر الله} [الحجرات: 9] واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} فدل على أنه مؤمن.
وثانيها: قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء} [البقرة: 178] وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وثالثها: قوله: {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} [الأنفال: 72] هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} [النحل: 28] وقوله: {مَالَكُمْ مّن ولايتهم مّن شَيء حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] وقال: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وَتَخُونُواْ أماناتكم} [الأنفال: 27] وقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا: هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة.
القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] نفي كونهم مؤمنين، ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي.
القيد الثالث: أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً.
القيد الرابع: ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عزّ وجلّ؛ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم، ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا. فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: هاهنا صورتان:
الصورة الأولى: من عرف الله تعالى بالدليل والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة. فهاهنا إن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان، وهو خرق للإجماع، وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل؛ لقوله عليه السلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان».
وهذا قلب طافح بالإيمان، فكيف لا يكون مؤمناً؟
الصورة الثانية: من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع، وإن قلتم ليس بمؤمن فهو باطل؛ لقوله عليه السلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق.
والجواب: أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكم بكونهما مؤمنين، وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان.
المسألة الرابعة: قيل: {الغيب} مصدر أقيم مقام اسم الفاعل، كالصوم بمعنى الصائم، والزور بمعنى الزائر، ثم في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} قولان: الأول: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: {بالغيب} صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ويقول الرجل لغيره: نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل.
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم.
واحتج أبو مسلم على قوله بأمور:
الأول: أن قوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وأنه غير جائز.
الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور.
الثالث: لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته، فقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.
والجواب عن الأول: أن قوله: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة، وهو جائز كما في قوله: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلُ وميكال} [البقرة: 98] وعن الثاني: أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً.
فإن قيل أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، ويفيد الكلام فلا يلتبس، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
وعن الثالث: لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد. ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] وأما الخبر فقوله عليه السلام: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً» واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل.
المسألة السادسة: ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً: أحدها: أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قومه.
وثانيها: أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] وقال: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] من قامت السوق إذا نفقت، وإقامتها نفاقها؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه.
وثالثها: أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها، وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط.
ورابعها: إقامتها عبارة عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح إذا صلى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] واعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها؛ ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطى الحقوق من دون بخس ونقص؛ ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم؛ لأنه يجب دوام وجوده؛ ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده.
المسألة السابعة: ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً:
أحدها: أنها الدعاء قال الشاعر:
وقابلها الريح في دنها *** وصلى على دنها وارتشم
وثانيها: قال الخارزنجي. اشتقاقها من الصلى، وهي النار، من قولهم: صليت العصا إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار.
وثالثها: أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية: 4] {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً.
ورابعها: قال صاحب (الكشاف): الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد، وأقول هاهنا بحثان:
الأول: إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب (الكشاف) يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن يقال: مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر، وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
الثاني: الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم، مختتمة بالتحليل، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل. لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة؛ لأنه الذي يقف الفلاح عليه؛ لأنه عليه السلام لما بين للإعرابي صفة الصلاة المفروضة قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق».
المسألة الثامنة: الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82] أي حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم: الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} [الرعد: 22] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.
وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل، لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة، ويقول: اللهم ارزقني عقلاً أعيش به وليس العقل بمملوك، وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك.
وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسين البصري: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالاً فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقاً.
وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً، فحجة الأصحاب من وجهين:
الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له الثاني: أنه تعالى قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً.
أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب فوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى، فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق.
وثانيها: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} [البقرة: 254] وأجمع المسلون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقاً.
وثالثها: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءآللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً، وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب (الغرر) بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام: «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت- أي عدو الله- لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعا».
وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضاً من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله عليه السلام:
فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم.
المسألة التاسعة: أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِي الأرض} [الأنعام: 35].
المسألة العاشرة: في قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} فوائد: أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه.
وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به.
وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34].
وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته.
وثالثها: الإنفاق في الجهاد.
وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} وأراد به الصدقة لقوله بعده: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8